فصل: الأول: اختيار ديني شرعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موسوعة الفقه الإسلامي



.أنواع القضاء والقدر:

اختيار الرب لعباده نوعان:

.الأول: اختيار ديني شرعي:

والواجب على العبد في هذا أن لا يختار غير ما اختاره الله له من الدين الكامل.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [36]} [الأحزاب: 36].

.الثاني: اختيار كوني قدري:

وهو نوعان:
ما لا يَسْخطه الرب كالمصائب التي يبتلي الله بها عباده، فهذه لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه، بل عليه أن يدفع قَدَر المرض بقدر الدواء، وقَدَر الجوع بقدر الأكل.
ما لا يحبه الله ولا يرضاه بل يسخطه كقدر المعاصي والذنوب التي يقع فيها بعض الناس.
فهذه العبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها، ويجب على من فعلها التوبة منها.
قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [7]} [الزُّمَر: 7].

.فقه القضاء والقدر:

كل ما قدره الله عز وجل من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الحكيم العليم بأسباب، فقد جعل الله لكل شيء سبباً.
فالله يعلم أن هذا يولد له بالوطء.. وهذا يشبع بالأكل.. وهذا يموت بالقتل.
ويعلم سبحانه أن هذا يدخل الجنة بالإيمان.. فإن لم يكن معه إيمان دخل النار.
ومن قال من الناس أنا لا أتزوج ولا آكل ولا أعمل اتكالاً على القدر فهو مخطئ؛ لأن الله أمر بفعل الأسباب التي تكون هذه الأمور بها.
فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات ومالكها، يفعل بها، وبدونها، وبضدها.
فلابد للعبد من العلم بأمرين:
أحدهما: أن يعلم أن الله وحده تفرد بالخلق والأمر، والهداية والإضلال.
الثاني: أن يعلم أن ذلك كله وقع منه سبحانه على وجه الحكمة والعدل، لا بالاتفاق، ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء في مواضعها.
فهو سبحانه الحكيم العليم الذي هدى من عَلِم أنه يزكو على الهدى، ويقبله، ويشكر ربه عليه، ويثمر عنده.
فالله عز وجل أعلم حيث يجعل رسالته وهدايته أصلاً وميراثاً.
لم يطرد عن بابه ولم يبعد عن جنابه من يليق به الهدى والتقريب والإكرام من الخلق من الملائكة، والأنبياء، والمؤمنين.
بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد من الشياطين والكفار والفجار.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [53]} [الأنعام: 53].
فعلى العبد أن يحمد الله على نعمة الهداية، ويفعل ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، مستعيناً بالله، متوكلاً عليه.
فإذا وقع قدر الله عليه بغير فعله فعليه أن يصبر عليه، وأكمل منه أن يرضى به، وأكمل منه أن يشكر ربه عليه.
وإن وقع قدر الله عليه بفعله وهو طاعة أو نعمة حمد الله عليه، وإن كان معصية استغفر الله وتاب منه.
قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [30]} [الشورى: 30].
وقال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [51]} [التوبة: 51].

.حكم الرضا بالقدر:

ما قضاه الله وقدره ثلاثة أقسام:
الطاعات والنعم: فهذه يجب الرضا بها، ويشكر الله عليها.
المصائب والنقم: فهذه يجب الصبر عليها، ويستحب الرضا بها.
الكفر والفسوق والعصيان: فهذه لا يؤمر العبد بالرضا بها، بل يؤمر ببغضها وسخطها، فإن الله لا يحبها ولا يرضاها.
والله عز وجل وإن خلق ما لا يحبه كالشياطين، والمعاصي، فإنه يفضي إلى ما يحبه من الجهاد، والتوبة، والاستغفار.
فنحن نرضى بما خلق الله، أما نفس الفعل المذموم وفاعله فلا نرضى به، ولا نحبه.
فالأمر الواحد يُحب من وجه.. ويُبغض من وجه.. كالدواء الكريه.. فهو مكروه لكنه يفضي إلى محبوب.
والطريق إلى الله أن نرضيه بفعل ما يحبه ويرضاه، ليس أن نرضى بكل ما يحدث ويكون، ولسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضاه وقدره، ولكننا مأمورون أن نرضى بما أمرنا الله ورسوله أن نرضى به من الإيمان والطاعات وغيرهما.
قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [58]} [يونس: 58].
وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [7] فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [8]} [الحُجُرات: 7- 8].

.وجه الرضا بالقدر:

قضاء الله خيراً وشراً له وجهان:
الأول: تعلقه بالرب، ونسبته إليه.
فمن هذا الوجه يرضى به العبد، فقضاء الله كله خير وعدل وحكمة.
الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فهذا نوعان:
منه ما يرضى به كالإيمان والطاعات.. ومنه ما لا يرضى به كالكفر والمعاصي.
والله يحب الإيمان والطاعات، ويأمر بها، ويثيب عليها.
ويكره الكفر والمعاصي، وينهى عنها، ويعاقب عليها.
قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [68]} [القصص: 68].
وقال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [28] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [29]} [الأعراف: 28- 29].

.حكم فعل الأسباب:

ما قدَّره الله للعبد من خير أو شر قَدَّره مربوطاً بأسبابه.
فللخير أسبابه وهي الإيمان والطاعات.
وللشر أسبابه وهي الكفر والمعاصي.
والإنسان يعمل بمحض الإرادة التي قدرها الله له، والاختيار الذي منحه الله إياه.
ولا يصل العبد إلى ما كتب الله عليه، وما قدره له، من سعادة أو شقاء، إلا بواسطة تلك الأسباب التي يفعلها باختياره الذي منحه الله إياه.
فلدخول الجنة أسباب.. ولدخول النار أسباب.. فيجب أن نفعل الأسباب.. لكن لا نتوكل إلا على الله الذي خلقها.
قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [132]} [آل عمران: 132].
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ الله، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، إِلاَّ وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً» قَالَ: فَقَالَ رَجَلٌ: يَا رَسُولَ الله! أَفَلاَ نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى [5] وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [6] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [7] وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى [8] وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [9] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. متفق عليه.

.دَوْر الأسباب:

فعل الأسباب المشروعة ليس كافياً في حصول المطلوب.
فالولد لا يحصل بمجرد الوطء؛ بل لابد من تمام الشروط، وانتفاء الموانع، وأن يشأ الله خلقه، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك أمر الآخرة، فليس بمجرد العمل يدخل الإنسان الجنة.
بل العمل سبب، وليس العمل عوضاً وثمناً كافياً في دخول الجنة.
بل لابد من عفو الله وفضله ورحمته، فكل نعمة منه فضل، وكل عقوبة منه عدل.
قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [62]} [الزُّمَر: 62].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ الله! قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَة». متفق عليه.

.أفعال العباد مخلوقة:

الله عز وجل خلق الإنسان، وخلق صفاته، وخلق أفعاله، وعلم ذلك، وكتبه قبل وقوعه.
فإذا فعل العبد خيراً أو شراً انكشف لنا ما علمه الله وخلقه وكتبه وقدره.
وعِلْم الله بفعل العبد عِلْم إحاطة، فالله قد أحاط بكل شيء علماً، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [96]} [الصافات: 96].
وقال الله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [61]} [يونس: 61].
وَعَنْ عَبْدِالله بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ الله وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا». متفق عليه.

.حكم الاحتجاج بالقدر:

ما قضاه الله وقدره بالنسبة للإنسان نوعان:
الأول: ما قضاه الله وقدره من صفات وأحوال خارج إرادة الإنسان، سواء كانت فيه كلونه وحجمه، وطوله وقصره، وحسنه وقبحه، وحياته وموته.
أو وقعت عليه بغير اختيار كالمصائب والأمراض، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وغيرها من المصائب التي قدرها الله بحكمة، فتارة تكون عقوبة للعبد.. وتارة تكون امتحاناً له.. وتارة تكون لرفعة درجاته.
وهذه الصفات التي فيه، والأحوال التي تقع عليه دون إرادة منه، لا يُسأل عنها الإنسان، ولا يحاسب عليها.
فيجب على العبد الإيمان أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، فيرضى ويسلم.
ويجب عليه في المصائب الصبر والتسليم لله، فما من حادثة في الكون إلا وللعليم الخبير فيها حكمة ممن أزمة الأمور كلها بيده وحده.
قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [22] لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [23]} [الحديد: 22- 23].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ الله يَوْماً فَقَالَ: «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله وَإِذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». أخرجه أحمد والترمذي.
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ». متفق عليه.
الثاني: ما قضاه الله وقدره من الأفعال التي يقدر عليها الإنسان، ويفعلها العبد بما وهبه الله له من العقل والقدرة والاختيار كالإيمان والطاعات..
والكفر والمعاصي.. والإحسان والإساءة.. فهذه وأمثالها يحاسب عليها الإنسان، وبحسبها يكون الثواب والعقاب؛ لأن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيَّن الحق من الباطل، ورغَّب في الإيمان والطاعات، وحذر من الكفر والمعاصي، وزود الإنسان بالعقل، وأعطاه القدرة على الاختيار، فيسلك ما شاء بمحض اختياره.
وأي الطريقين اختار فهو داخل تحت مشيئة الله وقدرته، إذ لا يقع في ملك الله شيء بدون إذنه ومشيئته وعلمه.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [46]} [فُصِّلَت: 46].
وقال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [29]} [الكهف: 29].
وقال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [27] لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [28] وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [29]} [التكوير: 27- 29].

.متى يجوز الاحتجاج بالقدر؟

للعبد مع القدر حالتان:
الأولى: يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب لا على المعائب، فإذا مرض الإنسان، أو ابتلي بمصائب بغير اختياره، فله أن يحتج بقدر الله فيقول: قدّر الله وما شاء فعل.
وعليه أن يصبر، ويرضى إن استطاع، لينال ثواب الصابرين.
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [155] الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [156] أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [157]} [البقرة: 155- 157].
الثانية: لا يجوز أن يحتج الإنسان بالقدر على المعاصي والمعائب، وترك الواجبات، أو يفعل المحرمات ويقول: هذا ما قدر الله.
لأن الله أمر بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي، وأمر بالعمل، ونهى عن الاتكال على القدر.
ولو كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولم يشرع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن رأى القدر حجة لأهل المعاصي يرفع الذم والعقاب عنهم، فعليه ألا يذم أحداً، ولا يعاقبه إذا سرقه أو اعتدى عليه، ولا يفرق بين من فعل معه خيراً أو شراً، وهذا باطل يخالف العقل والشرع.
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [148]} [الأنعام: 148].
وقال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [28]} [الأعراف: 28].

.حكم دفع القدر بالقدر:

يشرع دفع القدر بالقدر فيما يلي:
دفع القدر الذي انعقدت أسبابه ولَمَّا يقع بأسباب أخرى من القدر تقابله كدفع العدو بقتاله.. ودفع الحر والبرد بضدهما.
دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله كدفع قدر المرض بالتداوي.. ودفع قدر الذنب بقدر التوبة.. ودفع قدر الإساءة بالإحسان وهكذا.
كل ما يجري في هذا الكون كائن بقضاء الله وقدره.
وقد أمرنا الله عز وجل أن نزيل الشر بالخير.. ونزيل الكفر بالإيمان.. والباطل بالحق.. والبدعة بالسنة.. والمعصية بالطاعة.
فلا نقف مع القدر، بل ندفع قدر الله بقدر الله، ونفر من قدر الله إلى قدر الله كما أمر، فندفع ما قدره الله من الشر بما قدره من الخير وأمر به، كدفع شر الكفار والفجار بإعداد القوة ورباط الخيل، وكالدعاء والصدقة يدفعان البلاء وهكذا.
فندفع قدر الله المكروه.. بقدر الله المحبوب له.. حسب أمر الله.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [110]} [النساء: 110].
وقال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
وقال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [114]} [هود: 114].